فصل: مطلب في الإبل وما ينبغي أن يعتبر به، والتحاشي عن نقل ما يكذبه العامة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفراء:

سورة الغاشية:
{تصلى نَاراً حامية}
تصلى، وتصلى قرءَاتان.
{لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضريع}
وقوله عز وجل: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضريع...}.
وهو نبت يقال له: الشِّبْرِق، وأهل الحجاز يسمونه الضريع إذا يبس، وهو سم.
{لاَّ تسمع فِيهَا لاغية}
وقوله عز وجل: {لاَّ يُسْمَعُ فِيهَا لاغية...}:
حالفة على كذب.
وقرأ عاصم والأعمش وبعض القراء: {لا تسمع} بالتاء.
وقرأ بعض أهل المدينة: {لا يُسمع فيها لاغية}: ولو قرئت: (لا تسمع فيها لاغية) وكأنه للقراءة موافق؛ لأن رءوس الآيات أكثرها بالرفع.
{فِيهَا سُرُرٌ مرفوعة}
وقوله عز وجل: {فِيهَا سُرُرٌ مرفوعة...}.
يقال: مرفوعة مرتفعة: رفعت لهم، أشرفت، ويقال مخبوءة رفعت لهم.
{وَنَمَارِقُ مصفوفة}
وقوله عز وجل: {وَنَمَارِقُ مصفوفة...}.
بعضها إلى جنب بعض، وهى الوسائد واحدها: نُمْرُقة.
قال: وسمعت بعض كلب يقول: نِمْرِقة بِكسر النون والراء.
{وَزَرَابِيُّ مبثوثة}
وقوله عز وجل: {وَزَرَابِيُّ مبثوثة...}.
هي: الطنافس التي لها خَمْل رقيق {مبثوثة}: كثيرة.
{أَفَلاَ ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت}
وقوله عز وجل: {أَفَلاَ ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت...}.
عجّبهم من حمل الإبل أنها تحمل وِقرها باركة ثم تنهض به، وليس شيء من الدواب يطيق ذلك إلاّ البعير.
{لَّسْتَ عَلَيْهِم بمصيطر}
وقوله عز وجل: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بمصيطر...}.
بمسلِّط، والكتاب {بمصيطر}، و{المصيطرون}: بالصاد والقراءة بالسين، ولو قرئت بالصاد كان مع الكتاب وكان صوابا.
{إِلاَّ مَن تولى وكفر}
وقوله عز وجل: {إِلاَّ مَن تولى وكفر...}.
تكون مستثنيا من الكلام الذي كان التذكير يقع عليه وإن لم يذكر، كما تقول في الكلام: إذهب فعِظ وذكِّر، وعُمّ إلاّ من لا تطمع فيه، ويكون أن تجعل: {مَن تولى وكفر} منقطعا عما قبله. كما تقول في الكلام: قعدنا نتحدث ونتذاكر الخير إلاّ أن كثيرا من الناس لا يرغب، فهذا المنقطع.
وتعرف المنقطع من الاستثناءِ بِحُسْن إن في المستثنى؛ فإذا كان الاستثناء محضا متصلا لم يحسن فيه إن. ألا ترى أنك تقول: عندى مائةٌ إلاّ درهما، فلا تدخل إن ها هنا فهذا كاف من ذكر غيره.
وقد يقول بعض القراء وأهل العلم: إن (إلا) بمنزلة لكن، وذلك منهم تفسير للمعنى، فأما أن تصلح (إلاّ) مكان لكن فلا؛ ألا ترى أنك تقول: ما قام عبد الله ولكن زيد فَتُظْهِرُ الواوَ، وتحذفها. ولا تقول: ما قام عبد الله إلا زيد، إلاّ أن تنوىَ: ما قام إلا زيد لتكرير أَوَّل الكلام.
سئل الفراء عن {إيابهم} فقال: لا يجوز على جهة من الجهات. اهـ.

.قال الأخفش:

سورة الغاشية:
{لا تسمع فِيهَا لاغية}
وقال: {لاغية} أي: لا تسمع كلمة لغو وجعلها {لاغية}. والحجة في هذا انك تقول: (فارِس) لصاحب الفَرَس و(دارِع) لصاحب الدَرْع و(شاعر) لصاحب الشِعْر.
وقال الشاعر: من مجزوء الكامل وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المئتين:
أَغررتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ ** لابِنٌ بِالصَّيْفِ تامِرْ

أي: صاحبُ لَبَنٍ وصاحبُ تَمْرٍ.
{وَنَمَارِقُ مصفوفة}
واحد (النَمَارِق): النُمْرُقَة. اهـ.

.قال ابن قتيبة:

سورة الغاشية:
1- {الغاشية}: القيامة، لأنها تغشاهم.
6- (الضريع): نبت يكون بالحجاز، يقال لرطبة: الشّبرق.
11- {لا تسمع فِيها لاغية} أي قائلة لغوا، ويكون اللغو بعينه.
15- و(النمارق): الوسائد واحدتها: (نمرقة) و(نمرقة).
16- (والزرابي): الطّنافس. ويقال: هي البسط. واحدتها: (زربية).
{مبثوثة}: كثيرة متفرقة في المجالس.
20- {سطحت} أي بسطت.
22 – {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمصيطر} أي بمسلّط.
25- {إيابهم}: رجوعهم. اهـ.

.قال الغزنوي:

سورة الغاشية:
1 {الغاشية}: تغشى النّاس بأهوالها.
3 {ناصبة}: ذات نصب.
4 {ناراً حامية}: الحمى لازم. أو تحمي نفسها فلا يطفئها شيء.
و(الضريع): شجرة شائكة إذا أكلته الإبل هزلت، أو هو وصف من (الضّراعة) لا اسم، أي: ليس فيها طعام إلّا ما أعدّ للهوان، أو إذا طعموه تضرّعوا عنده.
11 لاغية: مصدر ك (اللّغو)، أو وصف مصدر محذوف، أي: كلمة لاغية ذات لغو. اهـ.

.قال ملا حويش:

تفسير سورة الغاشية:
عدد 18- 68 – 88.
نزلت بمكة بعد الذاريات.
وهي ست وعشرون آية.
واثنتان وتسعون كلمة.
وثلاثمائة وواحد وثمانون حرفا.
ويوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به وهي سورة الإنسان، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: {هَلْ أَتاكَ} يا سيد الرسل {حديث الغاشية} 1 التي تغشى الناس بأهوالها وتغطيهم بفظائع أحوالها، وفي التقدير بالاستفهام إعلام الناس بأن حضرة الرسول لا يعلم شيئا عنها عند نزول هذه السورة، وأن ما يعلمه بطريق الوحي الإلهي، وإيذان بأنه يتلى عليه ما لم يسمعه من أحد، وإشارة إلى زيادة الاعتناء بما يتنزل عليه لما له من الشأن العظيم.
{وُجُوهٌ يومئِذٍ} أي يوم تقوم القيامة المعبر عنها بالغاشية، ان وجوه أصحابها {خاشعة} 2 ذليلة خاضعة، وهذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهذه الوجوه التي تشاهد على غاية من الهوان فرءوس أهلها {عاملة ناصبة} 3 دائبة على العمل في نار جهنم تعبة من مشقة الأعمال وشدة العذاب التي تلاقيه ذلك اليوم جزاء عملها في الدنيا وتوغلها في الترف والرّفاه، فكما كانت تعمل في الدنيا لغير اللّه فإنها تعمل في الآخرة لقاءه في نار جهنم عملا تكل منه الجبال، فطورا تجر بالسلاسل والأغلال وتارة تخوض بالنار كما تخوض الإبل في الوحل، ومرة ترقى صعودا بأعالي جهنم وتهبط منه، وبذلك كله فإنها {تصلى ناراً حامية} 4 لأنها في سوائها وإذا عطشت فإنها {تُسْقى مِنْ عين آنية} 5 متناهية في الحرارة، قال تعالى: {وسقوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} الآية 16 من سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا سألت عن طعامهم فيها أيها الإنسان فإنهم {لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ} فيها {إِلَّا مِنْ ضريع} 6 هو يابس الشبرق شوك ترعاه الإبل مادام رطبا، فإذا يبس تحاشته لأنه سم قاتل، قال أبو ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوي ** وصار ضريعا بان عنه النمائص

وقال ابن غرازة الهذلي يذم سوء مرعى إبله:
وحبسن في هزم الضريع فكلها ** حدباء دامية اليدين حرود

أي أن طعامهم فيها يشبه هذا النبات الخبيث، وشرابهم ما علمت، وليس سواء، فبينهما كما بين نارنا ونار جهنم.
قال المشركون لما سمعوا هذه الآية إن إبلنا لتسمن على الضريع استهزاء وسخرية، لأن الإبل لا تأكله أبدا ولا يسمى ضريعا إلا بعد يبسه لأنه مادام أخضر يسمى شبرقا، فكذبهم اللّه بقوله: {لا يُسْمِنُ} الضريع الدابة أبدا {وَلا يُغْنِي مِنْ جوع} 7 البتة لأنه لا يؤكل حتى يشبع، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى: {إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} الآية 27 من الحاقة الآتية، لأن للنار دركات لكل دركة نوع من العذاب ويكون على قدر الذنب العقاب، فمنهم طعامهم الزقوم، ومنهم ذو الغصة، ومنهم الضريع، ومنهم الغسلين، كما سيأتي أجارنا اللّه من ذلك كله، وهذا ما وصف اللّه به أهل النار، وهاك وصف أهل الجنة جعلنا اللّه من أهلها، قال تعالى: {وُجُوهٌ يومئِذٍ ناعمة} 8 أهلها، وهذا أيضًا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، منعمة برضاء اللّه وجنته {لِسَعْيِها} الذي فعلته بالدنيا {راضية} 9 به لما رأت حسن جزائه في الآخرة لأنه {فِي جَنَّةٍ عالية} 10 لا يدرك الطرف مداها.
{لا تسمع فِيها لاغية} 11 في لهو وباطل بل كل ألسنتها التسبيح والتهليل والتحميد والتسليم {فِيها عين جارية} 12 إلى حيث أراد طلبها بمجرد إشارة منه دون تكلف ما لا تحتاج لجر أنابيب ووضع رافعات وصبابات، وهذا للشرب والنظارة و{فِيها} للجلوس والنوم {سُرُرٌ مرفوعة} 13 أنشأها اللّه لعباده، وناهيك بشيء ينشيءه اللّه، فصف من حسنها وماهيتها وعلوها وزخرفها ما شئت فلن تدرك حقيقتها ولن تقدر أن تحيط علما بها لأنها من مصنوعات اللّه، وسبب ارتفاعها ليشرف من عليها على ما خوّله ربه من الملك الواسع والنعيم الشاسع {وَأَكْوابٌ} طوس مستديرة وأكواز بلا عرى من فضة وذهب كما يشعر بعظمها التنوين {موضوعة} 14 بعضها جنب بعض على حواف الأعين الجارية مملوءة مهينة للشرب بقدر ما يشرب الشارب {وَنَمارِقُ} وسائد، قال زهير:
كهولا وشبانا حسابا وجوههم ** على سرر مصفوفة ونمارق

يؤيد هذا التفسير قوله تعالى: {مصفوفة 15} بعضها لبعض للاتكاء عليها، وهذا أحسن من تأويلها بمطارح، لأن الصف عادة أكثر استعمالا في الوسائد، وما جاء في قولهن:
نحن بنات طارق ** نمشي على النمارق

لم يرد بها الوسائد لأنها لا يمشى عليها بل يراد منها ما بينه اللّه بقوله: {وَزَرابِيُّ} وهي ما نسميها الآن سجّادا وأحسن أنواعه شغل العجم، أما هذا فهو من إبداع المبدع، وهو فوق ما نتصوره، فاسع أن تكون أهلا بأن تمشي وتجلس عليه {مبثوثة} 16 مبسوطة متفرقة في الغرف والباحات والأبهاء والساحات ومحال النزه وغيرها بحيث أينما أردتها وجدتها بالغرف والجنان والصحارى.

.مطلب في الإبل وما ينبغي أن يعتبر به، والتحاشي عن نقل ما يكذبه العامة:

وبعد أن وصف اللّه النار والجنة وأهلهما التفت إلى عباده حدثا لهم على الاعتبار في بعض مخلوقاته التي هي بين أيديهم ومسخرة لهم، فقال جل قوله: {أَفَلا ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت} 7 والإبل جمع لا واحد له من لفظه ومفردها جمل وبعير وناقة وقعود، ويجمع الجمل على جمال، والبعير على أباعر وأبعر وبعران، والقعود على قعدان، والناقة على نياق ونوق، وإنما خص الإبل لأنها من أنفس أموال العرب إذ ذاك وحتى الآن عند أهل البادية، وأعزّها عليهم، ولها مكانة عندهم حتى انهم يتفاخرون فيها، ولم يروا قبل أعظم منها للركوب والحمل والأكل، ولهم فيها منافع كثيرة، وذلك أنهم أنكروا ما وصفه اللّه من الجنة والنار وأهلهما فذكرهم اللّه بهذا النوع من مخلوقاته العجيبة الصنع المذللة لهم، مع أنها أقوى منهم ليعلموا أن الذي خلقها قادر على خلق ما وصف في الجنة والنار ليسترشدوا بذلك.
هذا وان الفيل مما يعرفونه أيضًا وهو أقوى من الإبل، إلا أنه لا منافع فيه مثل ما في الإبل ولم يطلعوا عليه كلهم، ولأنه لا يؤكل، ولا لبن له ولا صوف، وليس بلين الجانب كالإبل تقودها الأولاد وتعقلها المرأة، وتقنى للزينة والتجارة والركوب والدر، وتحمل الأثقال وفيها خواص لا توجد بغيرها، كاحتمالها العطش والمشاق في السفر، وتحمّل وهي باركة، وترعى من النبات ما لا يرعاه غيرها، والفيل خلو من هذه الصفات، وقد اخترع القبان منها بالنظر لسرتها وطول عنقها، ولها ميزة في خلقها وتركيب أعضائها وتأثرها بالصوت الحسن حتى انها قد تودي بحياتها من شدة طيّها المسافة البعيدة عند سماعها الحداء، ولها من الشفقة على أولادها ما لم يوجد عند غيرها، كما أن عندها من الحقد ما يقابل ذلك على من يعتدي عليها عند هيجانها اى الذكور منها، وقد ذكرنا ما يتعلق في بحثها في الآيتين 138: 143 من سورة الأنعام فراجعهما.
وإنما ذكّرهم اللّه تعالى ببعض نعمه عليهم، لأن المراد منه التذكر في دلائل توحيده وبراهين قدرته وإمارات صنعه مما يرون ويعلمون، أما مخلوقاته الأخرى الموجودة في ذلك الزمن والتي وجدت الآن وما ستوجد بعد فهي وإن كانت أعظم في الاستدلال إلا أن ضرب المثل بما هو موجود أكثر تأثيرا مما لم يوجد، فإذا قلت لهم توحيد سفينة عظيمة تمشي بالبخار على البحار وسيارات تقطع مسافة اليوم في ساعة، وطيارات تطوي الشهرين بيوم، وهاتف وراد ينقلان الصوت من المغرب إلى المشرق بلحظات لم يصدقوا، فلهذا اقتصر اللّه تعالى على ما هو معلوم عندهم كلهم.
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «كلموا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب اللّه ورسوله».
أي إذا ذكرتم لهم أشياء كهذه يخشى أن يكذبوه، ولو قلتم إن اللّه أخبر بها رسوله يوشك أن يكذبوا وإذا كذبوكم فقد كذبوا الذين نقلتم عنهم فيؤدي إلى الكفر الذي جاء الأنبياء لإزالته.
ومن هذا الحديث المروي عن الدجال بأنه يبلغ خبر خروجه المشرق والمغرب بيوم واحد، فقد أنكره كثير من العلماء لاستحالة وصول الخبر المذكور بيوم واحد إذ لم يكن عندهم لاسلكي أو راد أو هاتف، أما الآن فلا تجد من ينكره من هذه الحيثية، وكذلك حديث: «تطبخ المرقة في مكة وتؤكل في المدينة وهي حارة»، وحديث تقارب البلدان وغيرها من المغيبات التي أخبر عنها الرسول المكرم ووقع الشك في صحتها، ومن هذا قوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} الآية 188 من البقرة، عند سؤالهم عن الأهلّة، فلو قال لهم ما يذكره الفلكيون والطبيعيون في هذا لم يصدقوه.
قال تعالى: {وَإِلَى السماء كَيْفَ رفعت} 18 بلا عمد أو بعمد غير مرثية على كلا التفسيرين في الآية الثانية من سورة الرعد، والآية 9 من سورة لقمان، إذ لا يدرك أطرافها أحد ولم يقف على كنهها أحد ولم يطلع علي بنائها أحد كما لا ينالها أحد {وَإِلَى الجبال كَيْفَ نصبت} 19 على الأرض بصورة ثابتة راسخة لا تزول ولا تزال إلا بقدرة الملك المتعال، إذ جعلها رواسي للأرض لئلا تميد بأهلها، راجع الآية 9 من سورة لقمان، {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سطحت} 20 بسطت ومهدت ليستقر عليها كل شيء، فانظروا أيها الناس إلى هذه الأشياء، واعلموا أن من يقدر عليها يقدر على خلق ما وصف في الجنة والنار وما أعده لأهلها، وأنكم لا تقدرون على خلق ذبابة ولا تخليص ما تسلبه منكم فضلا عن خلق الإبل والسماء والجبال والأرض وما فيها من البدائع والعجائب، ألا له الخلق والأمر، راجع الآية 72 من الحج.
ولما لم ينجع بهم هذا ولم يعتبروا ويتعظوا التفت إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله: {فذكر} قومك يا سيد الرسل واحرص على إيمانهم ودم على ما أنت عليه {إِنَّما أَنْتَ مذكر} 21 فقط فلا يمنعك عدم قبولهم لنصحك وإصغائهم لرشدك من إدامة التذكير، لأنك يا حبيبي {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمصيطر} 22 لتجبرهم على الإيمان ولا بمسلط لتكرههم عليه، وإنما عليك البلاغ فقط وقد قمت به، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا وجه له، لأن غاية ما فيها التهديد والتخويف تمهيدا للذارة والبشرة وترغيبا للتصديق بما جاءهم به، وإن اللّه تعالى ما أنزل آية السيف وأمر رسوله بالقتال حتى غربل الناس وأوضح لرسوله المؤمن من الكافر وأظهر له من يؤمن طائعا مختارا راغبا، ومن يؤمن كرها وخوفا.
هذا، وإن الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تولى} عنك وأعرض إعراضا كليا {وكفر} 23 وأصر على كفره، متصل في ضمير عليهم ومحله الجر تبعا له، أي فإنك متسلط على هذا الصنف من الكفرة المدبرين عن الإيمان إدبارا كليا مثل الوليد وأبو جهل وأضرابهما، ولهذا أمر اللّه الرسول بالجهاد وأباح له قتل أمثال هؤلاء وسبيهم وإجلاءهم وأسرهم، وقد عاتبه على أخذ الفداء من أمثالهم، راجع الآية 67 من سورة الأنفال، وقد جعل جزاءهم الدنيوي هذا، أما العقاب الأخروي {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعذاب الأكبر} 24 في دركات جهنم ولا أكبر من عذابها، فيكون في هذه لآية إيعاد لهم في المدارين، وإشارة بأنه سيسلط عليهم وتظهر كلمته، وهذا لا ينافي حصر الولاية بذاته تعالى، لأنه الولي لا غيره وليّ، وان ذلك يكون بإذنه وأمره وإرادته، وعليه فيكون المعنى لست يا سيد الرسل على هؤلاء الكفرة الممتنعين من التصديق بك والإيمان بربك بمجبر ولا مكره إلا على من تولى وكفر بأن دام على كفر، فإنك مسلط عليه.
وما قاله الزمخشري وغيره تبعا له أو من بنات فكره وأولاد ذهنه من أن الاستثناء هنا منقطع وإن المعنى لست بمسئول عنهم لكن من تولى وكفر منهم فإن اللّه تعالى له الولاية عليه، فهو بعيد عن المعنى المراد واللّه أعلم، حتى ان عصام الدين قال فيه إشكال لأن المستثنى المنقطع هو المذكور بعد إلا غير مخرج من متعدد قبله لعدم دخوله فيه مخالف في الحكم وليس من تولى وكفر خارجا عن قوله عليهم، وليس حكمهم مخالفا له، تدبر.
{إِنَّ إِلَيْنا إيابهم 25} رجوعهم بعد الموت لنا لا لغيرنا {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حسابهم 26} في الموقف ومجازاتهم وناهيك بنا إذا حاسبنا أو عفونا، وقيل:
حاسبونا فدققوا ثم منّوا فأعتقوا ** هكذا عادة المترك بالمماليك يرفقوا

وفي رواية يشفقوا.
هذا، واللّه أعلم، وأستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، وعلى من تبعهم بإحسان ورضوان من اللّه ومغفرة ورحمة. اهـ.